سورة النور - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)}
يقول الله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أيها الخائضون في شأن عائشة، بأن قبل توبتكم وإنابتكم إليه في الدنيا، وعفا عنكم لإيمانكم بالنسبة إلى الدار الآخرة، {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ}، من قضية الإفك، {عَذَابٌ عَظِيمٌ}. وهذا فيمن عنده إيمان رزقه الله بسببه التوبة إليه، كمِسْطَح، وحسان، وحَمْنةَ بنت جحش، أخت زينبَ بنت جحش. فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وأضرابه، فليس أولئك مرادين في هذه الآية؛ لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يعادل هذا ولا ما يعارضه.
وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين، يكون مطلقًا مشروطا بعدم التوبة، أو ما يقابله من عَمَل صالح يوازنُه أو يَرجح عليه.
ثم قال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} قال مجاهد، وسعيد بن جبير: أي: يرويه بعضكم عن بعض، يقول هذا: سمعته من فلان، وقال فلان كذا، وذكر بعضهم كذا.
وقرأ آخرون {إِذْ تَلقُونَه بِأَلْسِنَتِكُمْ}. وفي صحيح البخاري عن عائشة: أنها كانت تقرؤها كذلك وتقول: هو مِنْ وَلَق القول. يعني: الكذب الذي يستمر صاحبه عليه، تقول العرب: وَلَق فلان في السير: إذا استمر فيه، والقراءة الأولى أشهر، وعليها الجمهور، ولكن الثانية مَرْويَّة عن أم المؤمنين عائشة.
قال ابن أبي حاتم: حدَّثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة أنها كانت تقرأ: {إِذْ تَلقُونَه} وتقول: إنما هو وَلَق القول- والوَلَق: الكذب. قال ابن أبي مليكة: هي أعلم به من غيرها.
وقوله: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي: تقولون ما لا تعلمون.
ثم قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} أي: تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين، وتحسبون ذلك يسيرا سهلا ولو لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان هَيِّنا، فكيف وهي زوجة النبي الأمي، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل! الله يغار لهذا، وهو سبحانه وتعالى، لا يُقَدِّر على زوجة نبي من أنبيائه ذلك، حاشا وكَلا ولما لم يكن ذلك فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء، وزوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة؟! ولهذا قال تعالى {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}، وفي الصحيحين: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله، لا يدري ما تَبْلُغ، يهوي بها في النار أبْعَد ما بين السماء والأرض» وفي رواية: «لا يلقي لها بالا».


{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)}
هذا تأديب آخر بعد الأول: الآمر بالظن خيرا أي: إذا ذكر ما لا يليق من القول في شأن الخيرة فأولى ينبغي الظن بهم خيرا، وألا يشعر نفسه سوى ذلك، ثم إن عَلِق بنفسه شيء من ذلك- وسوسةً أو خيالا- فلا ينبغي أن يتكلم به، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدَّثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل» أخرجاه في الصحيحين.
وقال الله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} أي: ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أي: سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة نبيه ورسوله وحليلة خليله.
ثم قال تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} أي: ينهاكم الله متوعِّدًا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدًا، أي: فيما يستقبل. فلهذا قال: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: إن كنتم تؤمنون بالله وشرعه، وتعظمون رسوله صلى الله عليه وسلم، فأما من كان متصفا بالكفر فذاك له حكم آخر.
ثم قال: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} أي: يوضح لكم الأحكام الشرعية والحِكَمَ القَدَريّة، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: عليم بما يصلح عباده، حكيم في شَرْعه وقَدَره.


{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19)}
وهذا تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيئ، فقام بذهنه منه شيء، وتكلم به، فلا يكثر منه ويشيعه ويذيعه، فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} أي: يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح، {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} أي: بالحد، وفي الآخرة بالعذاب، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي: فردوا الأمور إليه تَرْشُدُوا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ميمون بن أبي محمد المَرَئيّ، حدثنا محمد بن عَبّاد المخزومي، عن ثَوْبَان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُؤذوا عِبادَ الله ولا تُعيِّروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم، طلب الله عورته، حتى يفضحه في بيته».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8